درجَ معظمُ مَن امتهنَ التصميمَ ومارسَه بأشكاله المختلفة أن يحسبَ أنَّ المهاراتِ الأساسيَّةَ لِما يُسمَّى ‘‘التفكير التصميميّ’’ هي سلوكٌ طبيعيّ. أمَّا أنا، بوصفي فردًا ينتمي إلى فئة المصمِّمين، فكثيرًا ما أزعجَني أن يشارَ إليَّ على أنِّي ‘‘فنَّانة’’- بالمعنى المستخدَم لمن ينتج عملًا يقيِّمه بعض الأشخاص على أنَّه باختصار يحوي قيمة جماليَّة؛ فالفن بذلك المعنى يختلف عن التصميم. هذه النظرة التي تختزل التصميم بحسب جماليَّة النتيجة لم تقتصر فقط على مَن ينظر إليه من الخارج، بل شملتْ كثيرًا من المصمِّمين. لكنَّ التصميمَ في جَوهره لا يهدفُ إلى خَلْق ما هو جميل، بل يبحث عمَّا هو أعمق من ذلك، فيتناولُ التحدِّيات المعقَّدة في عالمنا اليوم. لذلك هناك مسؤوليَّةٌ كبرى تقعُ على عاتق المصمِّم؛ لأنَّه يعلَمُ أنَّ نجاحَه يكمنُ في أن يُحدِثَ تغييرًا ملموسًا في العالم.
لقد شهد العالم منذ منتصف القرن العشرين تطوُّرًا في العمليَّات والأساليب والتقنيات المتعلِّقة بما أصبح يُعرَف باسْم ‘‘التفكير التصميميّ’’، والذي أسهَمَ فيه مجموعةٌ من الباحثين في تطوير الأدوات وأساليب البحث. ففي مقالةٍ كتُبَتْ عام 1982م، بعنوان: ‘‘الوصول إلى المعرفة بواسطة التصميم’’، يشير نايجل كروس لمفهوم التصميم على أنَّ له ثقافةً قائمةً بذاتها تتميَّز عن مثيلاتها في العلوم والفنون والعلوم الإنسانيَّة. لقد أضافَ كتاب كروس ‘‘التفكير التصميميّ: فهمُ كيفيَّة تفكير المصمِّمين وعملهم’’، وكتاب براين لوسن وكيس دورست ‘‘الاختصاص في التصميم’’- إلى فَهْم التفاصيل المتشابكة للتفكير التصميمي وتقديرها، ما أدَّى إلى إيجاد حلول جديدةٍ لأمورٍ معقَّدة. نضيفُ إليها كتاب روبرت كوراديل ‘‘التفكير التصميميّ’’ الذي يُدرَّسُ في كلِّيَّات التصميم والأعمال والهندسة في جامعاتٍ مرموقةٍ حول العالم. هذا ونشهد اليوم ما يعقد من ورشات عمل في التفكير التصميميِّ للبالغين، وداخل المؤسَّسات وفي بعض المناهج المدرسيَّة حول العالم: أصبح التفكير التصميميُّ مستخدمًا عالميًّا.
التفكيرُ التصميميُّ في عالمنا اليوم، كما عرَّفه روبرت كوراديل هو ‘‘نهجٌ يتمحور حول الإنسان، ويسعى إلى إيجادِ حلولٍ ابتكاريَّةٍ حقيقيَّةٍ لمشكلاتٍ صعبة’’. وتشير إميلي ستيفنز: ‘‘يستندُ التفكير التصميميُّ بصورةٍ أساسيَّة إلى العمليَّات والأساليب التي يستخدمُها المصمِّمون (وذلك هو سبب إطلاق هذا الاسم عليه)، لكنَّه…تطوَّر من مجموعةٍ من المجالات المختلفة، من ضمنها الهندسة وهندسة العمارة وإدارة الأعمال’’. أمَّا أنا، فوجدتُ بواسطة تجرِبتي في الهندسة المعماريَّة والتصميم أنَّه كلَّما زادَتْ قدرتي على الإنصات إلى عملائي، والاستيعاب العميق للحيثيَّات الدقيقة التي تشكِّلُ معتقداتهم وسلوكهم ورغباتهم وبيئتهم- أي كلَّما زاد ‘‘التعاطف’’ مع اتِّجاهاتهم- كان التصميم مبتكرًا وملائمًا ويَفي بتلك الحاجات المحدَّدة. فالوعيُ بأهمِّيَّة هذا الجانب يجعل المصمِّمَ ينغمسُ في فَهْم مشروعه، ويقترب من عميله ويُشركه في المراحل الباكرة. وفي كثير من الأحيان، تؤدِّي هذه الشراكة إلى الوصول إلى إسهام العميل في الوصول إلى حلولٍ جديدةٍ تُلبِّي حاجاته، وتحلُّ مشكلاته. فعمليَّاتُ التفكير التصميميِّ التي يمارسُها كبار رياديِّي الأعمال المبتكرين: من عمليَّات فَهْمٍ ومراقبةٍ وروايةٍ هي نفسها ‘‘التعاطف’’ التي يُشغِلُ المصمِّم نفسَه بها. يحدث ذلك معي عندما أصمِّمُ مثلًا ورشةَ عمل (بصفتي ممارسةً معتمَدةً في مجال التعلُّم باستخدام الحوار)، حيث إنَّ عمليَّة التقييم المتعمِّق لاحتياجات التعلُّم تكشفُ تفاصيلَ عدَّة ورغباتٍ المتعلِّم وحاجاته، وتسمحُ بالوصول إلى تصميم أفضل يتمحور حوله (بوصفه متعلِّمًا)، ما يساعدُ في الوصول إلى نتائج أفضل.
يعتمد التصميم الجيِّد على التَّكرار: دورة وإعادة تشمل أحيانًا تغييرات أو تجارِب صغيرة متفرِّقة تؤدِّي إلى الحلِّ النهائيِّ الأشمل. أذكرُ في هذا المجال تجرِبتي مع أكوامٍ من أوراق الزبدة التي استخدمتُها سابقًا في عملية الاستشفاف، ثمَّ لاحقًا النُّسَخ المتكِّررة على الحاسوب في محاولة بحث واستكشاف للوصول إلى ما هو جديد؛ فكلُّ نسخةٍ كانت أشبَه بفرصةٍ للتجرِبة وإتاحة مساحة للتغيير دون أن أعرف ما سيقودُني بينها إلى الحلِّ النهائيّ: بمعنى آخر التصميم لم يكُنْ عمليَّةً خطِّيَّة.
وهكذا فإنَّ عمليَّةَ التفكير التصميميّ، تعني ليس فقط تقبُّلَ المجهول والمكوثَ طويلًا في أرض محايدة غير واضحة المعالم، بل تتجاوز ذلك الى كَسْر هياكلَ راسخة، والجلوس بين القطع المتناثرة لإعطاء الفرصة للمصمِّم لرؤية ما لم يستطعْ أن يراه سابقًا. فمرساة المصمِّم هي ‘‘التعاطف’’، وهي نقطة الارتكاز التي تسمحُ للمصمم بالبحث عن أساليبَ مختلفةٍ ‘‘لإعادة رَسْم’’ الإطار أو ‘‘التوسُّع’’ خارج الصندوق. يستخدمُ التفكيرُ التصميميُّ أدواتٍ وتقنياتٍ مثل الخرائط التخطيطيَّة والمصفوفات للمساعدة على الفَهْم العميق (أو ما نُسمِّيه ‘‘التعاطف’’). وبواسطة بيئةٍ تعاونيَّة، تستثمرُ في العصف الذهنيِّ وأساليبَ أُخرى للوُصول إلى احتمالات مختلفة وحلول مبتكرة.
يتضمَّنُ مفهوم التصميم أنماطًا من عمليَّات التفكير التي صارت لها قيمةٌ متزايدةٌ في اختصاصاتٍ مختلفة. وهنا تكمنُ مسؤوليَّتنا، نحن المصمِّمين، في تطوير أدواتنا وتقنياتنا التي نستخدمُها، ونعيدُ استخدامَها للخروج بحلولٍ مبدعةٍ ومبتكرة. علينا أن نطوِّرَ قدراتنا، ونعمِّمَ المعرفة بهذا المفهوم، ونجعلَه جزءًا عضويًّا من النظام التعليميّ، والأكثر من ذلك علينا نقلُه ليصبحَ أساسيًّا في ثقافتنا من أجل تحقيق الريادة في أعمالنا، وهذا ما سيجعلنا قادرين على قيادة الابتكار الذي يُعدُّ عنصرًا أساسيًّا للازدهار في عالمٍ سريع التحوُّل. وبهذا فقط نمكِّنُ أنفسَنا، نحن المصمِّمين، وفي الوقت ذاته نمكِّنُ مَن نسعى إلى خدمتهم بواسطة التفكير التصميميّ.