فن جنديّة فلسطينيّة

هند مها
عبلة عزار
أنا جنديّة. تصاميمي هي طريقة نضالي. تصاميمي تحيي تراثنا! أنا فلسطينيَّة من القُدس. أنا جنديّة، وموهبتي هي سلاحي.

اسمي عبلة مجج عازر، من مواليد ١٩٤٧م. توُفِّيت أمِّي وأنا في سنِّ ٦ شهور. حدث ذلك بينما كانت في طريقها إليَّ عائدةً لكي تُطعِمَني، لكنَّها لقت حتفها في انفجارِ قنبلةٍ إسرائيليَّة. عندما بلغتُ سنَّ العاشرة، حدَّثَني أبي بقصَّةِ وفاة أمِّي. كان يودُّ لو استطاع أن يجنِّبَني ألم التفكير في أنِّي يتيمةَ الأمّ. ولوقتٍ طويلٍ من طفولتي، اعتقدتُ أنَّ جدَّتي هي أمِّي، وكنت أناديها ‘‘ماما’’.

رفض أبي أن يتزوَّجَ بعد وفاة أمِّي. ويتلخَّصُ السببُ في ذلك بالجملة التي كان يردِّدُها مِرارًا: ‘‘أُظفر من أظافر ولادي بيسوى أكثر من كلِّ نساء الدنيا’’. بمعنى آخر، كان يريد أن يمنحَ كلَّ وقته وطاقته. كان أبي ينصَحُني دائمًا ويقول: ‘‘عبلة، لا تلحقي ورا الفلوس. خلِّي الفلوس تيجي لعندك. بس رُدِّي على إللي في قلبك’’. في إحدى السنوات، لم أستطعِ اجتيازَ السنة الدراسيَّة في المدرسة. وبصراحة أنا لم أكن أحبُّ الدراسة. حينها لم يقُلْ أبي لي إنِّي فشلت، بل انتظر إلى أن شارفَتِ العطلةُ الصيفيَّة على الانتهاء ثمَّ قال لي: ‘‘عبلة، لازم نشدّ حيلنا أكتر وندرس عشان ننجح بالمدرسة’’ لم أرَ منه ذرَّةَ غضب، بل عمل على تبديل فشلي ليقول فشلنا نحن، وبذلك فقد علَّمني أبي درسًا لن أنساه ما حييت: علَّمني معنى الحبِّ غير المشروط.

ارتدتُ مدرسةً داخليَّةً في القدس، وبعدها التحقتُ بجامعة بيرزيت. كنتُ صغيرةً جدًّا عندما قالتْ لي معلِّمَتي: ‘‘عبلة، يومًا ما ستصبحين مصمِّمة’’. في ذلك الوقت في ستِّينيَّات القرن الماضي، لم يكن هناك أيُّ مصمِّمين. يومَ تخرُّجي في الجامعة، أردتُ أن أرتديَ فستانًا جميلًا، لكنْ لم يكن معي أيُّ نقود. تذكَّرتُ حينها كلمات معلِّمتي، فذهبتُ إلى خزانة ملابسي، ووجدتُ فستانًا قديمًا كنتُ قد صمَّمتُه وحكتُه بنفسي. وفي يوم التخرُّج، لبستُ الفستان، فتلقَّيتُ إطراءً من معظم الحاضرين: ‘‘هذا أجمل فستان تخرُّج’’. أهذه إذًا نتيجةُ ما يحصل عندما يعطي المعلِّمُ نصيحةً صادقةً ولو كانت بسيطةً لطلَّابه؟

كنتُ أردِّدُ على مدى سنين جملة ‘‘الصراع هو عنوان اللعبة’’. التقيتُ زَوجي عندما كنَّا كلانا في سنِّ الثالثة عشرة. ارتدتُن أنا ونزيه المدرسةَ نفسها. وقَعْنا في الحبِّ عميقًا، وآهٍ ما كان أصعبَ ذلك! رفضَ الجميعُ قصَّتنا، فكانت توقُّعاتهم لي أن أتزوَّج أميرًا، أو طبيبًا، أو محاميًا، أو أيَّ شخصٍ كان، لكنَّهم لم يرحِّبوا بأن أتزوَّجَ شخصًا في عمري نفسه. لقد كافَحْنا بحقٍّ كي نكونَ زوجَين. بلغنا سنَّ الثانية والعشرين عندما ارتبطنا رسميًّا، وكان ذلك في الأوَّل من كانون الثاني/يناير عام ١٩٧١م، وتزوَّجنا أخيرًا بعد ذلك بسنة.

قالت لي جدَّتي إنَّ الأوَّل من كانون الثاني/ديسمبر عام ١٩٤٨م هو تاريخ وفاة أمِّي. ورفضَ أبي حينها أن نغيِّرَ تاريخَ ارتباطنا، علمًا أنَّ أبي كان يودُّ أن نحتفل في يومٍ آخر لا يحمل معه ذكرى مؤلمة. لكن من ذلك اليوم، لم يَعُدِ هذا التاريخ يومًا للحِداد.

أحبْنا بعضنا بعضًا بشدَّة، نزيه وأنا، وأنجبنا ثلاثة أطفال، ولدَين وبنتًا. كانت ابنتُنا ملاكًا، فقد جاءت إلى هذه الدنيا، وأمضَتْ معنا عامًا، ثمَّ عادَتْ إلى دارها في الجنَّة. تُوُفِّيَ زوجي أيضًا في التاريخ ذاته- التاريخ الذي وقعتُ في حبِّه أكثر وأكثر. نزيه يعيش في قلبي، ولا أستطيع حتَّى أن أتخيَّل نفسي أحبُّ شخصًا غيره. لن أحبَّ أحداً مثلما أحببتُه. دقَّات قلبي الأولى كانت لحظةً التقيتُه، وآخر دقَّات قلبي ستبقى دائمًا في ذاكرتي مربوطة به. نزيه هو زَوجي في الماضي والحاضر وإلى الأبد.

يجب أن تكونَ مؤمنًا بالله بحقٍّ كي تستطيع النجاةَ من فاجعةِ مَوت الأمّ، ثمَّ الأب، ثمَّ الابنة، وبعد ذلك الزوج. لولا إيماني بالله، لأصابني الجنون بالله. يبقى الله دائمًا معنا، ولا يتركنا. قد نشعر أحيانًا بأنَّ الله نسينا، لكنَّ تلك ليسَتِ الحقيقة؛ لأنَّ الله لا يترك أحدًا. لقد منَّ الله عليَّ بأمورٍ كثيرة: رزقني أبنائي وحفيداتي، ورزقني موهبتي. لولا موهبتي، لما استطعْتُ الكفاحَ والنجاةَ في هذه الحياة. لولا موهبتي، كيف كان لتُكتَبَ النجاةُ لعائلتي ولتراثنا الفلسطينيّ؟

تعرَّضتُ أنا وأبنائي للأذًى ولطمع الناس بنا، وذلك في وقتٍ كنَّا فيه في أمسِّ الحاجة للتلطُّف. لم يكن في وُسعي أن أجدَ شخصًا يساعدني على تقديم القهوة في جنازة زوجي، واضطررتُ إلى تقديم القهوة للناس بنفسي في جنازته. لن أتطرَّق للحديث بشأن الأشخاص الذين تسبَّبوا في أذى كبير لي ولأولادي، وأكتفي بذِكْر بيتنا، وسيَّارتنا، ونقودنا التي نُهِبَتْ منَّا فَورَ وفاة زوجي. كنتُ أملك كلَّ ما أحتاج إليه، لكنْ في لحظةٍ واحدةٍ فارقة، لم أعُدْ أملك شيئًا من ذلك. وأنا الآن أحثُّ جميع النساء على تسجيل البيوت بأسمائهنّ. أريدهنَّ أن يتعلَّمنَ من قصَّة معاناتي. يجب أن يعرفنَ مدى صعوبة الاستيقاظ بلا زوجٍ حبيبٍ بعد فقدانه، وفقدان بيتٍ زيَّنتُ زواياه بحبٍّ لزَوجي. لقد كان زوجي- رحمه الله- يعمل في مجال التأمين، لكنَّ المؤسف أنَّه نفسَه لم يكن في أمان.

في يومٍ من الأيَّام، قابلتُ امرأةً غجريَّةً قالت لي: ‘‘عبلة، ستبدأ حياتك من جديد في سن الثالثةِ والستِّين’’، وقد صدقَتْ كلمتُها فعلًا. اليوم صارَ لديَّ متجري الذي يضمُّ تصاميمي. أنا لستُ امرأةً مادِّيَّة، ولم أكن يومًا كذلك، لم يكُنْ المالُ يومًا محورَ تركيزي. وكثيرًا ما بعتُ قطعةً من تصميمي بخسارة كبيرة؛ فقط لأنَّ زبونتي ظهرَتْ جميلةً فيه، وأظهرت جمالَ التصميم على نحوٍ مميّز، وكأنَّه صُمِّمَ تصميمًا خاصًّا لها. زبونتي تبدو كنجمٍ لامعٍ وهي ترتدي أحد تصاميمي، فكيف لا أعطيها إيَّاه؟

لو كان في وُسعي قَولُ شيء للاحتلال الإسرائيليّ، لقلتُ: ‘‘كفى. لقد تسبَّبتم في أذًى عظيمٍ نتيجةَ قراراتكم البائسة. ألم يحن الوقت لنعيشَ بسلام؟’’ لو كان في وُسعي أن أتكلَّمَ إلى نساء العالم، لقُلتُ: ‘‘حرِّرنَ أنفسكنّ! ألم تَتْعَبنَ من تلك الأحاديث والأفكار السطحيَّة، والنميمة التي دون معنى؟ ليكُنْ لديكنَّ هدفٌ واضحٌ ومهمٌّ وقابلٌ للتحقيق’’. لمَ يجبُ أن تكونَ النساء هنَّ دائمًا الحلقة الأضعف؟ أذكُرُ ما قاله أحد أساتذتي محاوِلًا التعبير عن قوَّة المرأة، فقال: ‘‘لن يستطيعَ الرجل يومًا أن يلد امرأة’’. ما الذي ننتظره نحن النساء إذًا؟

إلى أصدقائي أقول ‘‘شكرًا. شكرًا لأنَّكم أصدقائي’’. ولأبنائي أقول: ‘‘انسوا ما حصلَ في الماضي، وسيروا قُدُمًا. سيروا على خُطى أبيكم وأمِّكم، وسوف تَحيَونَ حياةً طيِّبة’’.